السر الذي كشف عنه الشاعر الكردي السوري سليم بركات عن "أبوّة" محمود درويش السرية في مقال كان كتبه عام 2012 ونشره حديثاً في كتابه الذي صدر أخيراً عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر بعنوان "لوعة كالرياضيات وحنين كالهندسة" ويضم حواراً طويلاً أجراه معه وليد هرمز، ليس مجرد إفشاء لسرّ كان بركات مؤتمناً عليه أو خيانة لصديقه ورفيقه لسنوات غير قصيرة، بل هو يتعدّى المبدأ الاخلاقي ليفتح صفحة مجهولة من حياة صاحب "جدارية" ويطرح مسألة شائكة جداً قد تكون حافزاً على قراءة جديدة لشخصية درويش. والمقال هذا الذي نشره بركات بعد 8 سنوات على كتابته وبعد 30 عاماً على معرفته بالسرّ أو بوح درويش له به عام 1990 أيام إقامته في نيقوسيا، يورد فيه ما قاله له درويش: "لي طفلة، أنا أب، لكن لا شيء فيّ يشدني إلى الابوة". وتناقلت المقال صحف ومواقع عربية، وسرعان ما أثار ردود فعل سلبية ومباشرة حملت على بركات وكالت له تهماً، أولاها تهمة الخيانة.
خيانة وعد
كان مقدّراً أن يكون لهذا الإفشاء وقع رهيب، وهذا حتماً ما كان يدركه بركات، الذي لم يخلُ كلامه أصلاً عن علاقته بصديقه، من نبرة متعالية، إلى حدّ أنه استعاد اعترافاً رهيباً أدلى به درويش في لقاء جمعهما معاً في ندوة خلال معرض غوتنبرغ، مفاده بأنّ درويش جاهد كي لا يتأثر ببركات، الذي يضيف: "وفي اعترافه هذا، لم يَعُد يعرف أين الحدّ بين أن يراني صديقاً أو يراني ابناً له". قد يحقّ لبركات أن يستعيد شهادة درويش به، وإن كانت غيرمقنعة نقدياً ولا منطقياً، وهي شهادة يُعتدّ بها كثيراً وتمنح بركات مرتبة شعرية عالية. وكان درويش كتب عن بركات شهادة هي بمثابة مقالة يمتدح بها شعرية صاحب "الجمهرات" ونشرها بركات على غلاف ديوان أعماله الشعرية (المؤسسة العربية)، وكتب عنه أو له، قصيدة جميلة عنوانها "ليس للكردي إلّا الريح" ويقول فيها ما يختصر تجربة بركات في لمحة: "يعرف ما يريد من المعاني. كلها/ عبث. وللكلمات حيلتها لصيد نقيضها/ عبثاً. يفضّ بكارة الكلمات ثم يعيدها/ بكراً إلى قاموسه". أما في شأن قول درويش كما يزعم بركات نفسه، إنه جاهد لئلّا يتأثر ببركات، فيمكن تأويلها تأويلات عدّة، سواء في سياق المدح أو التبرؤ ولن أقول القدح أو الذم.
كان درويش يؤثر كثيراً شعر سليم بركات، ويحبّ وحشيته وقوته الهادرة، لكنه كان يستحيل عليه أن يتأثر فيه، فالتأثر فيه يعني خيانة لقضيته الشعرية الرحبة، وجمالياته الفريدة ولغته المنسابة وغنائتيه. ولستُ أقصد هنا فقط القضية الفلسطينية التي جعلت من درويش، لا سيما في مساره الأول، شاعراً ذا جمهور و"شعب"، بل القضية في بعدها التراجيدي التي تخطّت التخوم الجغرافية والتاريخية لتصبح قضية الشعوب المقهورة والمضطهدة، عطفاً على القضية الشعرية الصرفة التي انصرف إليها درويش في دواوينه الأخيرة بصفته شاعراً فقط، شاعراً يحلّق في سماء الشعر العالمي. ولعلّ قارئ الشعر العادي وليس الناقد أو الباحث، يدرك للفور عندما يقارن بين درويش وبركات، أن لا علاقة تجمع بينهما، لا رؤية ولا لغة ولا في المفهوم الشعري. وقد يكون مستبعداً أنّ درويش وجد في بركات "ابناً" له أو ندّاً أو قريناً، ولم يتمنَّ البتّة أن يكون ما كانه بركات، شاعراً يحفر في أعماق اللغة الوعرة، التي لا تبالي بقارئها كثيراً.
ردود فعل
أما إفشاء بركات سرّ أبوّة محمود درويش المجهولة والسرية والملغزة، فيمكن عدم وسمه بالخيانة، ولو أن بركات شاء قصداً أن يفجّر هذه القضية، وفي يقينه أنها ستنال من صورة درويش ورمزيته وحالته "الأيقونية" والشعبية. أفشى بركات السرّ في عزلته السويدية البعيدة، وأضحى اسمه بين ليلة وضحاها في متناول الإعلام ووسائل التواصل، وأصبحت شهادته مثار سجال ونقد شخصي واتّهام واستنكار وتشكيك. نادراً ما هوجم بركات في ما نُشر من ردود فعل، كشاعر أو روائي، فالجميع يعترفون بفرادته الإبداعية ومقدراته اللغوية وموهبته النادرة، حتى الذين لا يستطيعون إنجاز قراءة أعماله ، شعراً وسرداً. كتب مثلاً الشاعر عبدالله ثابت: "مقالة مخيبة، مخيبة، مخيبة، من سليم بركات عن محمود بعد صداقة عمر وهو حيّ، يفشي سرّه وهو ميت. أي صداقة هذه". وعلّق الناقد فخري صالح، قائلاً:" ما كتبه سليم بركات عن علاقته بمحمود درويش صادمٌ ومريب، ويشير، في الوقت الذي يدّعي سليم حبَّ درويش وبنوّتَه له، إلى رغبة في إلحاق الأذى بالشاعر الراحل، وغيرة مستحكمة وضغينة مُضمرة، وادّعاء بأهمية شعرية توازي أهمية درويش، في مقالة فيها الكثير من البلاغة الممجوجة والتقعر والإغراب اللغوي، ما يثقل على النفس ويشعر القارئ بالملل والرغبة في عدم المتابعة. وما يدّعيه في شأن السرّ، الذي استودعه إياه درويش قبل اثنين وعشرين عاماً، بأنّ له ابنة غير شرعية من علاقة عابرة مع امرأة متزوجة، سقطة أخلاقية غير مغتَفَرة وإثارة تافهة لا تليق بشاعر يدّعي أنه كبير. والأفظع من ذلك أنه يعترف بأن درويش عامله كابنٍ، بل ندٍّ، له. فأن يذيع الصديق سرّ صديقه، الذي رحل عن عالمنا، وليس في مقدوره أن يردّ أو يصحّح أو ينكر، يدلّ على انحدار القائل إلى حضيض أخلاقي تأباه الصداقة الرفيعة والمناقبية الأخلاقية. لا ندري صحة ما رواه سليم بركات عن درويش، لأن الرجل لم يَعُد بيننا ليعترف أو ينكر صحة ما رواه لـ"صديقه سليم بركات!". لكن ما ندريه أن هذه المقالة، التي يدّعي بركات أنه كتبها عام 2012، ثم نشرها عام 2020، متأخراً كل هذه السنوات، سقطةٌ كنّا نربأ بكاتب وشاعر نحبّه ونقدّره أن ينجرَّ إليها".
وكتب الروائي الياس فركونح "ليس هذا سليم بركات الذي أكنّ له ولإبداعه التقدير. هذه صدمة". وكتب الشاعر نوري الجراح: "لماذا يا سليم بركات، يا صديقي الذي أحبّ؟ ما حاجتك إلى حكاية كهذه؟ لطالما كنتُ أحبّ صداقتك لمحمود درويش، وكنتَ في نظري ندّاً بديعاً في جواره، ولم أعتبرك يوماً ابناً له، كما صرتَ تقدّم نفسك! استودعك وهو حيّ سرّاً، فلماذا تفشي سرّ الصديق، والصديق غائب وليس له لسان؟". هذه بضعة من ردود فعل كثيرة ستزداد حتماً بعد قراءة الكتاب. طبعاً المقال معقّد ومقعروتصعب قراءته براحة، كما أشار فخري صالح، بل هو مركّب ومصطنع وخال من السلاسة، على خلاف نثر محمود درويش، المشبع طلاوةً وانسياباً.
أذى الجمهور
لعلّ الأذى الذي ألحقه سليم بركات بصديقه محمود درويش لن يطاول سيرته ولا مساره ولا شعره ولا مكانته العالية، بل قد يؤثر سلباً في نظرة الجمهور الفلسطيني والعربي، والقراء الكثر إلى شاعرهم، شاعر القضية والمأساة والأرض السليب. فالأبوّة ليست مسألة بسيطة وعابرة، مثلها مثل البنوّة، وقراء درويش لا تغيب عن بالهم بتاتاً قصيدة "إلى أمي" التي أدّاها المغني والموسيقي مارسيل خليفة وزاد من رواجها شعبياً، وهذه قصيدة تتغنّى بالأمومة والبنوّة وجدانياً ووجودياً، وباتت رمز مَن فقد أرضه التي هي الأم أيضاً. ناهيك عن القصائد الأخرى التي كتبها درويش عن أبيه وأسرته وتجلّت فيها أواصر الحنين إلى الماضي والوطن. في إفشاء هذا السرّ، أسهم بركات عن غير قصد في "تشويه" رمزية شاعر في مرتبة محمود درويش وفي اهتزاز صورته المحفورة في وجدان الشعب الفلسطيني والعربي.
البحث عن ابنة محمود درويش المجهولة والسرية وعن أمها سيبدأ منذ الآن، وستشغل هذه القضية قراء الشاعر والصحافيين والناس العاديين فترة لا أحد يعلم كيف ستنتهي ومتى.